تحفظ الذاكرة السياسية السودانية للزعيم الجنوبي جون قرنق, مطالبته لشريكه (المؤتمر الوطني ) برفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح جميع المعتقلين بما فيهم غريمه الأيديولوجي د الترابي, حتي نُسب إلي الأخير تصريحه آنذاك لوكالة “قدس برس” عقب إطلاق سراحه، إن اقرب “الأبواب” إليٍّ هو زعيم الحركة الشعبية جون قرنق، فمعه دخلت السجن، مشيرا إلى وفاء قرنق الذي دعاه إلى عاصمته في الجنوب، حتى لا يعتقل.
أراد جون قرنق ان ينزل شعاراته في المناداة بالحرية والعدالة الي ارض الواقع حتي ولو كان اول المستفيدين منها هو في حسابات السياسة اشد أعداءه شراسة،ولقد كسب بهذا الموقف المبدئي والأخلاقي احترام مخالفيه قبل من هم في شيعته وكان ان رد الترابي التحية بمثلها حين ساق له التقدير كما ورد في ثنايا التصريح أعلاه .
تمر السنوات وتتبدل الأحوال ونري في المشهد السياسي مقاربة ليست بعيدة عن ما كان في الماضي.
فاليوم يصعد علي سدة الحكم من كانوا امس قادة للمعارضة يتقاسمون السلطة مع ثلة من العسكر لفترة انتقالية اجلها ثلاثة حجج فان أتمها الشريكان افضت الي انتخابات تمهد لحكم مدني ينقل البلاد الي مربع جديد لا يستبقي من اثار الماضي شئ . وبينما تحتضن غرف القصر معارضي الامس وقد حملتهم الثورة الي تلك المنزلة فانه في الوقت ذاته تحتضن حراسات سجن كوبر أعدادًا من المعتقلين من رموز النظام السابق سواء من خدموا إليٍّ اخر الدقائق قبل انطلاقة صافرة السقوط او الذين غابوا او غيبوا من مراكز السلطة وصناعة القرار لسنوات خلت فسلطة تقدير الاعتقال كانت حصرية للمجلس العسكري الذي أذابت الوثيقة الدستورية وجوده وحررت شهادة مدة صلاحيته . لكن المدهش في الأمر ان المجلس العسكري وبرغم انف الوثيقة مازال قراره باعتقال رموز النظام السابق نافذًا وفق قانون الطوارئ الذي نسخته الوثيقة الدستورية وإلا فباي حجة قانونية يعتقل أشخاص دون توجيه اتهامات لفترة تعدت الأشهر ؟
قد يفهم من سياق مقالي اني انبري مدافعا عن رموز النظام السابق وهم في نظر الغالبية من الناس يتحملون وزر ما وصلنا اليه من حال لا يخفي علي ذي بصيرة ولا اخالف هذا الزعم بل اشدد علي ان ينال كل من اجرم في حق الشعب والوطن عقابه كاملا دون ادني تنازل او تفريط لكن ليتم ذلك باليات العدالة والبينات لا بالاعتقال وفق أهواء وتصفية حسابات قديمة بين التنظيم الساقط فينجو ثلة وتحاسب اخري وتضيع حقوق الوطن .
ليس من العسير لاي مراقب ان يدرك ان طائفة من مجرمي ومفسدي عهد الإنقاذ مازالوا في تجارتهم الحرام وكسبهم غير المشروع لم تمتد اليهم أيادي واعين سلطة المجلس العسكري التي فيما يبدو تغض الطرف هنا وترسله هناك وإلا فكيف تفسر يا هداك الله ما تشاهده من مزاولة قادة كبااااار في العهد السابق لحياتهم بشكل اعتيادي وفيهم من كان واليًا ومن كان وزيرا او في مكتب الرئيس المعزول او في ديوان الرئاسة ؟ بل ما هو تبرير من قاموا بالاعتقالات لبعض القيادات ولم يشمل الاعتقال شخصيات قيادية في حزب المعزول ومنهم من كان نائبًا له ونراهم في كامل التمتع بالمدنية والعهد الجديد ؟ لمصلحة من اعتقلت ثلة وتركت اخري ؟ هذا هو السؤال الذي ظل يحيرني وكنت أتوقع مع مرور الأيام ان اشهد أمرين:اما محاكمات في مواجهة المعتقلين أو إلقاء القبض علي الجميع لان هناك من هو ضالع في المسؤولية أضعاف من (بعض) المعتقلين.
إن أعضاء المجلس السيادي الان أمام امتحان اخلاقي كبير وهو تطبيق شعار الثورة الذي نادي بالعدالة فلا يركنوا الي ادعاءات وإملاءات تأتي من البعض فالقانون وحده الذي يفصل في القضايا فلا اعتقال دون توجيه اتهامات وبأمر النيابة وليسارع المجلس السيادي الي تكوين مفوضية لمحاربة الفساد ويتولى شانها نخبة من اهل الثقة ممن يتسمون بالاستقامة والجسارة لمواجهة الباطل مها تستر حول اسماء لامعة او مراكز مرموقة او علامات تزحم الكتوف وليترك الأمر كله الي هذه المفوضية لتغوص في كل الملفات ولتأتي بكل فاسد بما لديها من بيانات وليس بما يتوفر عند الفريق الكباشي من معلومات لم ترق الي ان تصبح ادلة لان الكباشي سيكون في نظر المفوضية مواطنا سودانيا يمكن ان يشمله التحقيق في حال ان تقدم مواطن سوداني بما يدينه.
زبدة الحديث : المجلس العسكري باعتقاله لبعض قيادات النظام البائد لم يفعل ذلك بدافع حماية الثورة وإلا كنا نري اناسا نظنهم من الأشرار اتخذوا سخريا أم غابت عنهم الأبصار ؟ لكن المجلس العسكري يواصل اداء دوره في مسلسل صراعات سابقة لا تمت للثورة بصلة والأيام ستثبت لمصلحة من كف العسكر أياديه عن قيادات وأوصد باب الزنازين في وجه اخرين.
دولة القانون التي في سبيلها قدم الشباب دماءهم مهرًا لقيامها ستنهض شامخة وباذخة فالاكف الآثمة لن تحجب ضوء الشمس.